حين يُعاد تشكيل الإنسان... لماذا نبدأ من التعليم؟

 في الزوايا التي لا تراها الكاميرات، وفي الصمت الذي لا تلتقطه الميكروفونات، يتشكّل الإنسان... لا على طاولة الفلسفة، ولا في كتب التنمية البشرية، بل في مؤسسات تُعيد تشكيله برفقٍ شديد، حتى ينسى أنه كان يملك صوتًا مختلفًا يومًا ما.

فإذا أردنا أن نعيد للإنسان وعيه، وأن نمنحه فرصة أن يكون ذاته لا ظلّ ما فُرض عليه، كان لا بد أن نبدأ من حيث أُنتج، من حيث صيغ وتهذّب واستُلبت منه فطرته:
من التعليم.

١. لماذا التعليم أولًا؟

لأن التعليم لم يكن يومًا أداة للمعرفة فقط، بل كان ولا يزال أداةً للترويض.
ليس كل تعليم تحريرًا، فهناك تعليم يُراد به أن تتعلّم كيف تُطأطئ رأسك، أن تحفظ ما لا تفهم، وأن تردّد ما لم تؤمن به، أن تتعود على الصمت، على الترتيب، على الامتحان لا الحياة.

كان ينبغي أن يكون التعليم دعوةً لاكتشاف الذات، لكنه تحوّل إلى وسيلة لصناعة نسخٍ متشابهة من مواطنين صالحين… كما تراهم السلطة لا كما يرون أنفسهم.

٢. ما هو الوعي الزائف؟

الوعي الزائف هو حين تعتقد أنك اخترت طريقك، بينما في الحقيقة، لم تُمنح إلا طريقًا واحدًا.
هو أن تحلم بما أراده لك الآخرون، وتخاف من الخروج عن المألوف، وتُقسم أن هذا هو "الصواب" لأنهم علموك أن أي شيء آخر هو الفشل أو الضياع.

الوعي الزائف هو حين يلبسونك قيدًا ويسمونه "منهجًا"، ويُقيّدون عقلك ويسمونه "انضباطًا"، ويُجرّدونك من صوتك باسم "التربية".

٣. ما المشكلة في التعليم إذًا؟

المشكلة ليست في الكُتب، بل في طريقة تلقينها.
ليست في الامتحان، بل في منظومة النجاح والفشل التي تُقسم البشر إلى درجات لا إلى قدرات.
المشكلة في أن التعليم صار وسيلة للفرز الطبقي، لا للتحرر من الطبقات.

التعليم كما يُمارس الآن لا يسأل: من أنت؟
بل يسألك: كم درجتك؟
ولا يهتم بما تحب، بل بما يُملى عليك أن تتقنه.
ولا يطلب أن تفكر، بل أن تُجيد نسخ الإجابة النموذجية.

٤. تفكيك لا هدم

لسنا ضد التعليم، بل ضد ما آل إليه.
لسنا دعاة فوضى، بل نطمح لبناء تعليمٍ يعترف بالإنسان، لا بنسخته الرسمية.
نطمح إلى أن نُربّي أبناءنا على التفكير لا الطاعة، على السؤال لا الحفظ، على الشكّ البنّاء لا الإيمان الأجوف.

٥. من هنا نبدأ...

هذا المقال ليس نهاية، بل بداية.
بداية لمشروعٍ نحاول فيه أن نُفكك، لا لنسخر، بل لنفهم.
أن نهدم الزيف لا الأصل، أن نُعيد الاعتبار للإنسان، في وجه المنظومات التي اختزلته في رقم أو رتبة أو شهادة.

وسنبدأ من التعليم،
لأنه أول ما لمس أرواحنا ونحن أطفال،
وأول ما شكّل وعينا دون أن ندري،
وأخطر ما زُرع فينا ونحن نبتسم ونردد: "نحفظ لننجح."

فهل نُكمل الرحلة؟

تعليقات